لماذا يتحسس اليسار من نقد أساطير “المحرقة”؟ حول اختلاف التوظيف السياسي للمِخرقة بين النظام العالمي الجديد والقديم

March 8th 2010 | كتبها


(صوتك في عالم أسكتت فيه الصهيونية والحديد والنار صوت العدالة)


لماذا يتحسس اليسار من نقد أساطير “المحرقة”؟

حول اختلاف التوظيف السياسي للمِخرقة بين النظام العالمي الجديد والقديم

[نشرت هذه المادة في الملحق الأسبوعي للعرب اليوم الأردنية في 26/12/2005]

محمد أبو النصر وإبراهيم علوش

www.freearabvoice.org

لا تستطيع السلطة، أية سلطة، أن تقف وحدها دون خطاب ما يشرعن وجودها.  فالقوة العارية يمكن أن تكسب معركة أو حرب، ويمكن أن تسهم باحتلال بلد أو إقامة إمبراطورية، أما الحفاظ على السلطة، فيحتاج مبرراً مقنعاً يخرس المحكومين ويوحد الحاكمين، أي يحتاج لاحتلال العقل والفؤاد.  فالسلطة التي تستنزف نفسها في معركة يومية لا تنتهي لا يمكن أن يكتب لها البقاء، حتى لو كانت سلطة أمريكا في فيتنام أو سلطة الكيان الصهيوني في جنوب لبنان.  فخطاب “الرسالة الحضارية” مكن الإمبراطورية البريطانية مثلاً من أن تحكم مساحات شاسعة وعشرات الملايين من المستَعمَرين ببضعة آلاف من الجنود والموظفين الإنكليز فحسب.  وخطاب الديموقراطية وحقوق الإنسان يمثل القناع الإيديولوجي للإمبراطورية الأمريكية اليوم.  والخطاب الصليبي الملفق كان الذريعة الأيديولوجية لما اسماه العرب عن وجه حق في القرون الوسطى: غزوات الفرنجة، لأنهم لم يعترفوا بأن تلك الغزوات تعبر عن المسيحية فعلاً.

وقد تكون السلطة موضع البحث حميدة أو خبيثة، وقد يكون خطابها الأيديولوجي مزيفاً أو أصيلاً، فليس هذا المهم هنا، المهم أن القانون الموضوعي للقوة العارية التي تتمدد خارج حدودها الأصلية هو احتياجها بالضرورة إلى خطاب أيديولوجي مقنع يسوغها للمحكوم، ويقنع الشعب في الدولة الحاكمة ببذل التضحيات في سبيلها، مثلاً: كان خطاب الاتحاد السوفياتي السابق هو الأممية الشيوعية، وكان خطاب الإمبراطوريات العربية الأولى إسلامياً أصيلاً موحداً للعرب مقنعاً لغيرهم، وخطاب الطموح الإمبراطوري الفارسي إسلامياً من نوع أخر، وخطاب العثمانيين إسلامياً لا يرتبط بالضرورة بالعرب أو العروبة (وإلا توجب عليهم أن يتنازلوا عن السلطة للعرب)…

وبدون خطاب مقنع للشعوب المحكومة بعدل أو بظلم، وموحدٍ للشعوب الحاكمة، لا يمكن أن ينعم مركز الإمبراطورية بالاستقرار، بل سوف يستهلك نفسه دوماً في معارك دموية لا نهاية لها.  فلا مناص إذن من اقتناع المحكوم بسلطة الحاكم الأجنبي بالنهاية لبقاء تلك السلطة، ولا مفر بالتالي من المقاومة في ميدان الفكر والثقافة، وليس فقط في ميدان الحرب، إذا أرادت الشعوب أن تتخلص من الهيمنة الخارجية.  فالهيمنة الخارجية قد تدخل بحجة القوة ولكنها لا تبقى إلا بقوة الحجة، ولذلك، لا يمكن أن نفهم الموقف السلبي لبعض القوى الإسلامية في العراق من كل مفهوم “الديموقراطية” والانتخابات اليوم إلا ضمن هذا السياق، سياق مقاومة الهيمنة الخارجية التي حاولت استغلال الاستفتاءات والانتخابات وما شابه لتشرعن وجودها؛ فإعلان تلك القوى رفض الديموقراطية بالجملة هكذا لم يكن مطروحاً عندها بهذه الحدة من قبل مساخر المهرجانات “الديموقراطية”.

ومن أصناف السلطة الخبيثة والخطاب الملفق، تحتاج السلطة اليهودية في العالم اليوم بدورها إلى خطاب عالمي يشرعن وجودها ويبرره.  وهذا الخطاب هو خطاب “المحرقة” الذي تم تبنيه رسمياً في 1/11/2005 في الجمعية العامة للأمم المتحدة.  وتستغل دولة “إسرائيل” خطاب المِخرقة أيضاً لتبرير وجودها، باعتبار “المحرقة” تتويجٌ لتاريخ بشري من “اللاسامية”، لا مجرد فصلٍ من فصول الحرب العالمية الثانية.

وقد سبق وتناولنا “المحرقة” وأساطيرها واستخداماتها السياسية في موضعٍ أخر، والأزمة العالمية التي سببتها تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد حولها في 8/ 12/2005.   وبعد حصد حركة الإخوان المسلمين في مصر عشرين بالمئة من مقاعد البرلمان المصري، شكك المرشد العام للحركة محمد مهدي عاكف بالمِخرقة في 22/12/2005، مما أثار فوراً رد فعلٍ فرنسي رسمي شديد اللهجة، فهذه القضية باتت من أكثر القضايا تفجراً في عالم ما بعد الحرب الباردة.

ويلاحظ في هذا الصدد أن الإسلاميين على أنواعهم، وبعض القوميين في الوطن العربي، أقل تحسساً من تناول أساطير المِخرقة بالنقد من غيرهم، وأن العلمانيين واليساريين يفضلون تجنب الموضوع وطمسه، أما اليساريون والعلمانيون الغربيون  فتكاد تصيبهم حالة من الصرع السياسي وانفلات الزنبركات العقلية حالما تطرح “المحرقة” للنقد أمامهم، لا بل تتحالف اللوبيات اليهودية في الغرب مع التيار الأساسي في اليسار لقوننة تقديس “المحرقة” ورفعها فوق كل معاناة، باعتبار مناهضة “اضطهاد اليهود” إحدى الموضوعات “التقدمية” هناك!

ويزيد من هذه المشكلة حدةً أن معظم المؤرخين المراجعين الناقدين للمِخرقة، باستثناء حفنة منهم مثل سيرج تيون وبيير غييوم الفرنسيين اليساريين، جاءوا من خلفيات يمينية عامةً أو حتى يمينية متطرفة، مع العلم أن المراجعة التاريخية ليست أيديولوجيا بحد ذاته، بل منهج علمي، نقدي تحليلي، في دراسة وقائع الحرب العالمية الثانية بالتحديد، يؤدي عند تبنيه إلى نسف أساطير “محرقة اليهود” من أساسها.

تحاول المعالجة التالية، بالتالي، أن تستكشف الأسباب التاريخية لتمسك اليسار عامةً، والغربي خاصةً، بأساطير “المحرقة” منذ أيام الاتحاد السوفياتي، وتحاول من ثم أن تثبت أن دواعي ذلك التمسك قد زال تماماً منذ انهارت المنظومة الاشتراكية، وتغيرت بالتالي الوظيفة السلطوية لما يسمى “المحرقة”، وما يصح أن يسمى عوضاً عن ذلك بالمِخرقة، أي الشيء الخارق الذي لا يمكن تصديقه.

هذه إذن محاولة لطرح المسألة أمام المتأففين من نقد المِخرقة بدوافعَ يسارية أساساً، خوفاً من أن يؤدي نقد “المحرقة” للانجراف إلى تأييد الفاشية أو النازية التي يفترض أنها ارتكبت جرائم “المحرقة” المزعومة، وبالتالي الانجراف لتأييد الفاشية بشكل عام، والتعصب والعنصرية، باسم مقارعة الصهيونية.

ولكن في البداية، لا بد من التساؤل: هل هي صدفة أن تثار “المحرقة” بهذا الشكل غير المسبوق، بعد مرور كل هذه العقود على حدوثها المفترض، بالذات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟!  هذا هو السؤال المفصلي الذي يجب أن يُسأل… وهو سؤال ترتبط إجابته بالجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر، عالم ما بعد الحرب الباردة، ولكن لا بد للإجابة عليه من شيءٍ من التاريخ.

حول الاتحاد السوفياتي و”المحرقة”: لمحة تاريخية

بعض المؤرخين المراجعين، من الخلفية اليمينية المتطرفة، يوردون الشواهد بأن الاتحاد السوفياتي كان البادئ باختلاق أساطير “المحرقة”، ويعزون ذلك إلى زعمهم أن “الشيوعية اختراع يهودي”، فالصحف والدوريات السوفياتية كانت البادئة بالحديث عن مدى اضطهاد النازيين لليهود في الحرب العالمية الثانية، وأفران الغاز، ومنها اختلاق قصص صنع أغلفة مصابيح المنازل Lamp Shades من جلود اليهود.

ولكن التفسير السطحي الذي يربط تبني الاتحاد السوفياتي لقصص المِخرقة بزعم أن “الشيوعية مؤامرة يهودية”، وهو زعم يحتاج لمعالجة أخرى، ولكن يمكن دحضه بكل سهولة، كما نفعل جزئياً في الفقرات التالية، يتجاهل حاجة السلطة لخطاب أيديولوجي مقنع، وفي هذه الحالة، حاجة السلطة السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية لخطاب أيديولوجي يبررها خارج حدودها بناءً على مقررات مؤتمر يالطا لاقتسام العالم، وقد كان ذلك الخطاب هو هزيمة الفاشية، وليس “المحرقة” بالمناسبة.

في الواقع، بذل الاتحاد السوفياتي عشرين مليوناً، وفي بعض المصادر تجدها اثنين وعشرين أو حتى أربعاً وعشرين مليوناً، من الشهداء لكسر الفاشية ودحرها عن الاتحاد السوفياتي نفسه أولاً، ومن ثم أوروبا.  وقد أجلت أمريكا إنزال النورماندي على شواطئ فرنسا عامين كاملين، من عام 1942 حتى عام 1944، حتى تمكن الاتحاد السوفياتي من دحر النازيين، وبدأ يتقدم باتجاه قلب أوروبا، فخافت الدول الغربية من أن يتمكن من السيطرة على القارة الأوروبية.  وكانت أمريكا وبريطانيا ترغب بأن يستنزف النازيون السوفيات، والعكس بالعكس، قبل أن يدخلوا معركة أوروبا بكل قواهم.

المهم، دفع السوفيات ثمناً عظيماً، لم يدفع مثله أي شعب في التاريخ، لكسر النازية، وكانوا قد عقدوا العزم على الاحتفاظ بالسيطرة على أوروبا الشرقية، كحاجز جغرافي سياسي، يدافعون به عن بلادهم، خاصة أن نابليون أيضاً كان قد غزاهم قبلها بأكثر من قرن عبر أوروبا الشرقية، وأن خطر الدول الغربية ما يزال ماثلاً مع تحريض السياسي البريطاني البارز ونستون تشرشل الدول الغربية لاستئناف الحرب ضد الاتحاد السوفياتي بعد هزيمة ألمانيا النازية.

وكان الاتحاد السوفياتي إذن يبرر سيطرته على أوروبا الشرقية بالثمن الباهظ الذي دفعه لتحرير شعوب تلك الدول من ألمانيا النازية، ولذلك، كان الاتحاد السوفياتي يبالغ بوصف الوحشية التي يتسم بها النازيون، ليجعل من التخلص منهم نصراً أعظم، ليس فقط للسوفيات أنفسهم، بل للشعوب التي كانوا يحكمونها خارج حدودهم.

ولنلاحظ أن أمريكا اليوم عادت لمصادرة هذا الدور التاريخي للسوفيات لتبرر لنفسها بعض سلطتها العالمية زاعمةً أنها هي التي حررت أوروبا من النازية!  وما كانت أمريكا لتجرؤ على ادعاء مثل هذا الدور لنفسها بكل هذه الوقاحة لو كان الاتحاد السوفياتي لا يزال قائماً. فالنصر على الفاشية هو بالأساس الخطاب الأصيل للسلطة الأوروبية السوفياتية، لا الأمريكية، وبما أن الاتحاد السوفياتي ذهب مع الريح، فلا بأس من مصادرة بعض متاعه الأيديولوجي.

في هذا السياق، كان الخطاب السوفياتي المعادي للفاشية، المقنع للشعوب الأوروبية المحكومة، يتألف من عدة عناصر، إحداها قصة “المحرقة”، ولذلك من المهم الانتباه أن المِخرقة لم تحظَ بهذه الدرجة  من الاهتمام في الغرب حتى انهار الاتحاد السوفياتي.   فما دام الاتحاد السوفياتي قائماً، كانت المبالغة في المِخرقة أمراً يعزز من مكانة ومشروعية السلطة السوفياتية خارج حدودها في أوروبا المتنازع عليها مع أمريكا.  ولذلك، كان المؤرخون المراجعون في الدول الغربية خلال الحرب الباردة، الذين يوصفون الآن بأنهم من أنصار النازية والفاشية، يلقون قدراً لا بأس به من الدعم والرعاية، فيما يتعرضون للإفلاس ولأقسى أنواع الاضطهاد اليوم.

ولنوضح أن المؤرخين المراجعين لم يكونوا يلقون الدعم والرعاية من الحركة الصهيونية بالتأكيد خلال الحرب الباردة، لأن “المحرقة” كانت منذ البداية الخطاب السلطوي للحركة الصهيونية ولدولة “إسرائيل”، فهذه بالضرورة نقطة تناقض بين المراجعين وبين الحركة الصهيونية.  ولكن النخب الحاكمة في الغرب كانت تتساهل مع المؤرخين المراجعين خلال الحرب الباردة، ومع أبحاثهم ومع تمويلها، أكثر بعشرات الأضعاف مما تفعل اليوم، لأن ذلك كان ينظر إليه وقتها كأحد الكوابح الأيديولوجية للسلطة السوفياتية.  فكم تغير العالم اليوم!

وبأية حال، من الأهمية بمكان أن نركز أن الاتحاد السوفياتي روج للمِخرقة فقط كأحدى مفردات خطابه المعادي للفاشية، وبالتالي لسلطته، وهذه نقطة تناقض حادة بينه وبين الحركة الصهيونية نفسها لأن الاتحاد السوفياتي كان يرفض مقولة فرادة المعاناة اليهودية في التاريخ، بل كان يوظف المِخرقة ضمن سياقه الخاص وخطابه هو، أما الحركة الصهيونية فكانت تصر على مقولة فرادة المعاناة اليهودية لأنها تنتج أيديولوجياً مقولة التفرد اليهودي، وهي المقولة التي كان عليها أن تنتظر مجيء العولمة لفرضها عالمياً.

وهنا نلفت النظر أن النسخة السوفياتية من “المحرقة”، وهي نسخة كان يروجها الكتاب اليهود السوفيات بالأساس، ذكرت ولم تركز على ما يسمى أفران الغاز، بل على الأرقام، أي على إدعاء إبادة عدة ملايين من اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، وهي ملايين تظل أقل بكثير من العشرين مليوناً ونيف الذين دفعهم السوفيات من أجل دحر النازية، فلا يجرؤ الصهاينة أن يقارعوا السوفيات بالفرادة هنا.  ولكن الاتحاد السوفياتي، بالرغم من ذلك، ترك ثغرة كبرى عندما تبنى، ولو عرضاً، قصة أفران الغاز العجيبة، لأن هذا هو مصدر تفرد المِخرقة المزعومة في التاريخ، وليس عدد ملايين ضحاياها.

وقد كانت موضوعة فرادة المعاناة اليهودية مسرحاً لصراع سياسي مرير بين الاتحاد السوفياتي والحركة الصهيونية.  ومن ذلك مثلاً إصرار الصهاينة على وضع نصب للضحايا اليهود فقط في بابي يار في أوكرانيا، فيما كان يريد السوفيات أن يكون النصب لكل ضحايا النازية، وقد كان هذا موضوع صراع حاد بين الطرفين في الخمسينات والستينات، وفي النهاية رضخ السوفيات لنصب يهودي فقط!

المهم أن تبني الاتحاد السوفياتي لأساطير المِخرقة وترويجه لها، ولو بسياقه الخاص، أدى لارتباط ذلك بالموقف المعادي للفاشية والنازية والتعصب العرقي في صفوف كل اليساريين والتقدميين في العالم للأسف، ونحن إذ نؤكد أن وحشية النازية والفاشية لا تحتاج لأساطير المِخرقة لاثباتها، نصر أن الوحشية الحقيقة التي نواجهها اليوم هي وحشية النظام الدولي الجديد، المتعولم المتهود، فيما الوحشية النازية باتت شيئاً من الماضي يثيره تحالف النخب المعولمة والمتهودة فقط لتسويغ سيطرته العالمية هنا والآن! فعلينا إذن أن ننتبه جيداً أن الوظيفة السياسية لأيديولوجية المِخرقة اختلفت تماماً منذ انهيار المنظومة الاشتراكية، فقد تم تضخيمها وإعادة تصميمها وضخها إعلامياً بكثافة بالذات مع تصاعد مشروع العولمة.

قصة الاتحاد السوفياتي مع “المحرقة”: ليس دقيقاً من الناحية التاريخية المحض أن الاتحاد السوفياتي هو الذي اختلق أساطير “المحرقة”.  فما حدث في الواقع هو اختراق يهودي-صهيوني للسياسة السوفياتية، ولكن فيما كان يظن السوفيات أنهم هم الذين يخترقون اليهود.  والقصة بدأت بتأسيس لجنة يهودية مناهضة للفاشية Jewish Anti-Fascist Committee في الاتحاد السوفياتي كان يفترض بها أن تجند يهود العالم، خاصة في الغرب، لمصلحة الجهد السوفياتي في الحرب ضد النازية.  ولكن اللجنة انزلقت بسرعة للدعاية الصهيونية في الاتحاد السوفياتي، وللدعوات “القومية اليهودية”، وللاتصال مع المنظمات الصهيونية العالمية، وتجاوزت المهمة الأصلية التي كانت كلفت بها.  ويبدو أن السوفيات كانوا قد استشعروا ذلك، ولكنهم سكتوا على مضض، لأن حاجتهم للتحالف مع الغرب خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل كانت تقتضي كسب اليهود، أو على الأقل، عدم استعدائهم.

ولكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في يوم 19/11/1946 بالتحديد، أشار تقرير رسمي سوفياتي، كتبه ميخائيل سوسلوف (1)، وتم تمريره لأعضاء المكتب السياسي للحزب ولستالين حول دور ما يسمى اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية أن تلك اللجنة “تتخذ طابعاً قومياً صهيونياً متزايداً”،  وأنها كانت تدعم الحركة اليهودية القومية الرجعية في الخارج، وأن نشراتها كانت تدعو “لفكرة القومية اليهودية الواحدة، الرجعية الطابع”، وختم التقرير بتوصية تصفية اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية.  ولكن اللجنة لم تحل.  والأرجح أن السبب كان خوف ستالين من تحريض ونستون تشرشل (الذي لم يعد في الحكم وقتها) على شن حرب جديدة ضد السوفيات، وأمله في أن تقف الجاليات اليهودية في الغرب ضد ذلك التوجه…  وقد كان هذا العامل، الحاجة لليهود في الغرب، أحد أهم العوامل  التي دفعت ستالين للاعتراف بدولة “إسرائيل” في 15 أيار/مايو 1948 فيما بعد، فقد كان السوفيات يأملون بكسب اليهود لصفهم في الغرب، بعد اعتقادهم أنهم سيكونون ممتنين لتحريرهم إياهم من النازية.

ولكن بعدها حدث تطور خطير من وجهة نظر القيادة السوفياتية قليلاً ما يؤخذ بعين الاعتبار: فحالما أعلن عن تأسيس “إسرائيل”، خرجت موجة عارمة من اليهود السوفيات تعبيراً عن حماسة بالغة “قومية يهودية” منقطعة النظير، وهو ما يبدو أنه صدم ستالين والقيادة السوفياتية بشدة، ومنذ تلك اللحظة بدأ ستالين يدرك أن اليهود بدلاً من أن يكونوا أحد أذرعه في الغرب، كانوا في الواقع طابوراً خامساً للإمبريالية في الاتحاد السوفياتي.  وبدأ بذلك التحول ليس فقط بموقف الاتحاد السوفياتي من الكيان الصهيوني نفسه، ولكن تم حل اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية، ومحاكمة أعضائها بتهمة الدعوة لفرادة المعاناة اليهودية والعمالة، وتمت إعدامهم بالرصاص، وتمت محاكمة وإعدام العميل اليهودي رودولف سلانسكي الرئيس الفعلي لتشيكوسلوفاكيا في 2/12/1952 بتهمة العمالة والاتصال بالحركة الصهيونية العالمية(2)، وفي نفس الوقت، بدأت الاستعدادات لمحاكمة أطباء يهود بتهمة محاولة اغتيال ستالين وقادة سوفييت آخرين، وهو ما عرف باسم مؤامرة الأطباء (3).  وقد نسبت هذه النزعة “اللاسامية” عند العم ستالين في سنواته الأخيرة للخرف، ولكنها كانت تعبر في الواقع عن إدراك حقيقي متجذر لحقيقة الدور اليهودي في الاتحاد السوفياتي (4).

كانت الغلطة التاريخية بالاعتراف بالكيان الصهيوني قد ارتكبت بالطبع، ولو أن العلاقات الديبلوماسية عادت لتقطع بعدها بقليل بذريعة تفجير البعثة السوفياتية بتل أبيب.

ما يهمنا هنا هو مصدر النسخة السوفياتية من قصة “المحرقة”.  فما حدث هو أن الكاتب اليهودي السوفياتي إيليا أهرنبرغ هو الذي زعم أن أربعة ملايين يهودي قتلوا في معسكر أوشفيتز، في شهر كانون ثاني/ يناير 1945، أي قبل تحرير المعسكر!!  وأن النازيين قتلوا ستة ملايين من اليهود!!  وكان أهرنبرغ أحد الذين يعملون على مشروع “الكتاب الأسود عن الاضطهاد النازي لليهود”.  ولم يبدأ هذا المشروع بمبادرة من اليهود السوفيات أصلاً، بل من العالم الصهيوني المعروف ألبرت أينشتين (وله كتابٌ معروف عن الصهيونية، وصورٌ على النت مع كبار الصهاينة) ومن عدد من العلماء اليهود الأمريكيين الذين تمكنوا من إقناع ممثلين لليهود السوفيات كانوا في زيارة لأمريكا عام 1943 بتبني فكرة الكتاب الأسود.

وأصبح الكتاب الأسود بعدها مشروع اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية في الاتحاد السوفياتي بالتعاون مع مجموعات يهودية وصهيونية مختلفة حول العالم، ولكن المحرر الأساسي للكتاب كان الصهيوني أيليا أهرنبرغ، والصهيوني فاسيلي غروسمان، وتحت ذريعة وضع الكتاب، تمت دعوة كل اليهود للاتصال باللجنة للتبليغ عن المظالم التي تعرضوا لها لتوثيقها.  وبعد نهاية الحرب، لم يسمح السوفيات للكتاب الأسود بأن يطبع، بل اعتقلوا وحاكموا وأعدموا كل قيادات اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية بتهمة الدعوة للقومية اليهودية، وبتهمة العمالة لأمريكا أو للكيان الصهيوني، كما سبق الذكر.  ولكن الخرافات التي وضعت في الكتاب تم تعميمها عالمياً من قبل الحركة الصهيونية على أية حال.

أما أهرنبرغ، فقد كان حذراً جداً، ولم يتورط أمنياً مع اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية، فلم تثبت عليه الاتهامات بالعمالة، ولذلك لم يعدم معهم… ولكن المهم أن السوفيات في نهايات عهد ستالين بدأوا بالتعامل بحزم مع الاختراق اليهودي الصهيوني، أما قصص المِخرقة، فلم تكن من اختراع السوفيات أنفسهم، بل من اختراع الاختراق الصهيوني فيهم، بالتحديد، من صنع المنظمات اليهودية الأمريكية، وامتدادها في الاتحاد السوفياتي كما سبق وأوضحنا.  وقد وجد السوفيات تلك الخرافات مناسبة لهم سياسياً في الفترة الواقعة ما بين محاكمات نورمبرغ في نهايات الحرب العالمية الثانية ومنتصف عام 1948، عندما تم الاعتراف بدولة “إسرائيل”.  وقد طلب أندريه غروميكو المندوب السوفياتي في الأمم المتحدة وقتها ملف اضطهاد اليهود من أهرنبرغ عام 1944، واستخدم الملف في محاكمات نورمبرغ ضد النازيين بعدها، فلم يعد ممكناً التراجع…

ويبقى أن “المحرقة” طالما بقيت جزءاً من ملف مناهضة الفاشية، ودور السوفيات في دحرها، فإنها كانت أقل خطراً علينا نحن أيضاً مع أنها تبقى إحدى الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية” بجميع الأحوال.  أما اليوم، فقد انتهى الاتحاد السوفياتي، وصادرت أمريكا إرثه المناهض للفاشية، وأعادت هي والحركة الصهيونية إنتاج المِخرقة بالشكل الذي يناسب الخطاب الأيديولوجي للنظام الدولي الجديد.  ولولا ذلك، لما بذلنا نحن كل هذا المجهود في بحث وطرح المسألة (5).

الملاحظات:

(1) ميخائيل سوسلوف اسم مألوف لمن كانوا يتابعون الأدبيات السوفياتية، ومع أنه لم يكن مسؤولاً سوفييتياً رئيسياً عندما كتب تقريره ضد اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية عام 1946، فقد لمع نجمه من أواسط الستينات حتى توفي في كانون ثاني / يناير 1982.

(2) كان رودولف سلانسكي الشخص الذي يدير الشؤون اليومية للحزب فعلياً، أما الرئيس الاسمي، فقد كان كلمنت غوتولد.  وعندما أعدم سلانسكي، عاد كلمنت غوتولد لإدارة الدفة بحماية القيادة في موسكو.  وقد حضر غوتولد جنازة ستالين في 5/3/1953، ليموت بعدها بتسعة أيام، في سن السادسة والخمسين فقط!!!

(3) مؤامرة الأطباء باتت في الغرب كلمة سر لاتهام ستالين باللاسامية.  وخلاصة قصة مؤامرة الأطباء أن الفريق الطبي الذي عالج مسئولين سوفييت كبار، مثل الكسندر شربكوف وأندريه جدانوف و(البلغاري) جورجي ديمتروف، كان من اليهود.  وقد مات كل المذكورين بين يدي ذلك الفريق الطبي المتكون من اليهود، وكان يفترض أن يعالج ذلك الفريق ستالين نفسه.  وقد بدأ التحقيق في أوائل الخمسينات في مقتل شربكوف على يدي ذلك الفريق عام 1945، ومقتل جدانوف على يديه عام 1948، ثم مقتل جورجي ديمتروف (صاحب مقولة الجبهة القومية المتحدة) عام 1949.  وهو أمر كان من المؤكد أن يثير شكوك أي عاقل، خاصة أن جدانوف وديمتروف لم يكونا كهلين عندما ماتا على يدي الفريق الطبي اليهودي.

(4) يبدو أن ستالين قد سبقنا في الوصول للاستنتاجات التي وصلنا إليها حول اليهود (وليس الصهاينة منهم فقط) بحوالي خمسين عاماً.  فقد قال في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي في 1/12/1952: “كل يهودي قومي النزعة وعميل للمخابرات الأمريكية.  والقوميون اليهود يؤمنون بأن أمتهم قد أنقذتها الولايات المتحدة الأمريكية (حيث تستطيع أن تصبح غنياً وبرجوازياً هناك).  وهم يعتقدون أنهم مدينون للأمريكيين.  وبين الأطباء يوجد العديد من القوميين اليهود”.  ونورد هذه الفقرة كمثال على التحول الذي جرى في موقف القيادة السوفيتيية في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، حتى مات ستالين في 5/3/1953.  وهو التحول الذي فضل أن يتجاهله كثيرٌ من الشيوعيين.

(5) للمزيد حول المِخرقة وخطورتها، الرجاء الذهاب إلى الروابط التالية:

http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/KalamA7madNajatee.htm

http://www.freearabvoice.org/arabi/kuttab/alMuarakhuna/muhatwiyatuLKaras.htm

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.